كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم.
فقوله: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم فمعناه: ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم، بل اقتصروا على أكل أموالكم، وقد دل عليه قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا}.
وبان بقوله تعالى: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، الاقتصار على البلغة حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم، فهذا تمام معنى هذه الآية، فقد وجدنا آيات محكمات بمنع أكل مال الغير بغير رضاه، سيما في حق اليتيم، ووجدنا هذه الآية محتملة للمعاني، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين.
وقد جوز أبو حنيفة للوصي أن يعمل في مال الصبي مضاربة، فيأخذ منه مقدار ربحه، وإذا جاز ذلك، فلم لا يجوز أن يأكل من ماله إذا عمل فيه، فيأخذ أجر المثل بل هو أولى، فإن أجر المثل معلوم في وضع الشرع، ومقدار أجرة عمله مأخوذ من العادة، وأما الربح فهو نتيجة الشرط وليس أجرة عمله، وهو على قدر الشرط، وأي قدر شرطه العامل الوصي لنفسه من الربح، فهو متحكم فيه، وإنما الشرط للعامل من جهة رب المال، وإلا فالواجب أجر المثل في القراض الفاسد، وهاهنا إذا لم يكن أجر المثل مع أنه أقرب، فالتحكم بالتقدير من جهة العامل كيف يحتمل، والربح أبعد عن الاستحقاق، فإن الربح زيادة على عين مال اليتيم، والزيادة تبع المزيد عليه، وليس للوصي في مال اليتيم حق.
وأما الأجرة: ففي مقابلة العمل، والعمل حق للوصي، وأنه من منفعة فهو أولى ببذلها، فلا وجه لمذهب أبي حنيفة، والعمومات التي ذكرناها من قبل محكمة في إبطال التصرف في مال اليتيم بطريق القراض وغيره.
فإن قال من ينصر مذهب السلف، إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين، فهلا كان للوصي كذلك، إذا عمل لليتيم ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله؟
قيل له: اعلم أن أحدا من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي، بخلاف القاضي، فذلك فارق بين المسألتين.
وبعد: فالذي يفصل بينهما من طريق المعنى يقول:
إن الرزق ليس كأجرة الشيء، وإنما هو شيء جعله اللّه تعالى لكل من قام بشيء من أمور الإسلام، فللمقابلة بينهم من مال اللّه تعالى، وللفقهاء سهم، مع أنهم لم يعملوا شيئا يستحقون عليه الأجرة، لأن اشتغالهم بالفتوى وتفقيه الناس، فرض لا يؤخذ عليه أجر، وكذلك الخلفاء لهم سهم من مال اللّه تعالى، وقد كان للنبي صلّى اللّه عليه وسلم سهم من الخمس والصفي وسهم من الغنيمة، وما كان يأخذ الأجرة على شيء يقوم به من أمر الدين، وكيف يجوز ذلك مع قول اللّه تعالى: {قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ}.
فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء، لا يأخذون من مال واحد معين، وإنما يأخذون من مال اللّه الذي لا يتعين له مالك، وقد جعل اللّه ذلك المال الضائع حقا لأصناف بأوصاف، والقضاة من جملتهم، والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه، وعمله مجهول وأجرته مجهولة، وذلك بعيد عن الاستحقاق.
واعلم أن الاحتياط الذي أمر اللّه به في حق اليتامى، وأن لا يدفع إليهم أموالهم إلا بعد إيناس الرشد، يدل لا محالة بطريق الأولى على أن الأولياء من الأوصياء، والأقارب والحكام، لابد وأن يكونوا عدولا ذوو رشد.
والفاسق المتهم من الآباء، والمرتشي من الحكام والأوصياء، والأمناء غير المأمونين، لا يجوز جعلهم أولياء وحكاما، ويدل على ذلك أن الحاكم إذا فسق انعزل.
قوله تعالى: {فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}، يؤذن بالاحتياط القاطع للدعوى الباطلة، كما أمر بالاحتياط في المداينات قطعا للمنازعة، لا جرم قال الشافعي رضي اللّه عنه:
لو ادعى تسليم المال إلى الصبي بعد البلوغ وأنكر الصبي، لم يصدق إلا بينة.
نعم المودع يصدق في الرد دون بينة، لمصلحة تعلقه بالوديعة، في أنه لا يرضى المودع بالإشهاد على ردها، لما فيه من إشهار أمرها، والودائع تعرض في خفية، ولأن المودع ائتمنه فرضي بقوله واعتقد أمانته.
وأما الائتمان من جهة الصبي فلم يجز أصلا، وفي هذا المعنى نظر، فإن الوصي في معنى النائب عن الصبي، فكذلك كان نائبا عنه في التصرفات، فيجوز أن يكون نائبا عنه في الحفظ حكما، وإن لم توجد الاستنابة من جهة الصبي خاصة الآن، فإن نيابته عن الصبي ظاهرة، وكذلك إذا ادعى تلف المال.
قيل: ولولا النيابة كان ضامنا للمال، لأنه ممسك مال غيره دون استنابة.
ومما يتعلق به الشافعي رضي اللّه عنه، أن اللّه تعالى إنما أمر بالإشهاد، لأن دعواه مردودة في الرد دون البينة.
ويمكن أن يقال: فائدته ظهور أمانته وبعده عن التهمة، وقطع دعوى الصبي بالباطل، وسقوط اليمين عن الوصي.
وقد أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم الملتقط بالإشهاد على اللقطة في حديث عياض بن حمار المجاشعي، أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب» فأمره بالإشهاد ليظهر أمانته وتزول الشبهة عنه.
قوله تعالى: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ} إلى قوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)}.
لا شك في كونه مجملا في بيان المقدار، غير أن الذين لا يحجبون شخصا بشخص في بعض الأحوال، مثل الأخ بالجد عند قوم، والذين يورثون بالرحم، يحتجون بعموم هذه الآية ويقولون: إن ما فيها من الإجمال في المقدار، لا يمنع الاحتجاج بعمومها، في حق الأقارب، وهو عندهم مثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ}.
وأنه يحتج به في غير موضع الإجمال، وهو إبانة أصل الأمر بحسن الفعل، وهذا بيّن.
فيقال في حق العمة مثلا والخالة والخال: إن لهم نصيبا مما ترك الأقربون، وإنهم في هذا المعنى يقدمون على الأجانب.
نعم ذكر قتادة أن الآية وردت على سبب، وهو أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وذلك لا يمنع التعلق بعموم الآية، لإمكان أنهم كانوا يورثون الذكور من ذوي الأرحام وغيرهم من الأقارب، فأبطل اللّه تعالى ما كانوا عليه في الجاهلية، وهذا مما يعترفون بكونه عاما.
وفيه دلالة على جعل القرابة مطلقة للميراث، إلا أنه لم يجعل لهم إلا النصيب المفروض لا المال المطلق، وليس في الآية ذلك النصيب المفروض.
نعم في الآية نصيب مجمل لا جرم يفهم منه أن لهم نصيبا مجملا، قوله تعالى: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى} الآية [8]:
فيه أقاويل مختلفة للسلف، فنقل عن ابن عباس، أنها محكمة ليست بمنسوخة.
وقال سعيد بن المسيب: هي منسوخة بالميراث.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنها محكمة ليست بمنسوخة، وهي في قسمة المواريث فيرضخ لهم، فإن كان المال عقارا أو فيه تقصير لا يقبل الرضخ، اعتذر إليهم، فهو قوله تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}.
والقول الثالث عن ابن عباس: أنها في وصية الميت لهؤلاء، وهي منسوخة بالميراث، فكأن الموصي أمر به في الشيء الذي يوصي فيه، ودل عليه قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ} الآية [9].
قال: يقول له من حضر: اتق اللّه وصلهم وبرهم وأعطهم، ولا حاجة إلى تقدير النسخ، بل أمكن أن يحمل على الندب.
والذين قالوا: إنها منسوخة لعلهم قالوا: ظاهر قولهم: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} الوجوب، ولا وجوب هاهنا، فبقي أنه منسوخ، وليس ذلك من النسخ في شيء إنما هو حمل اللفظ على بعض مقتضياته، وإنما النسخ أن يثبت أن ذلك كان من قبل على ما الآن عليه، ثم نسخ.
فأما قوله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ} الآية [9].
اختلف السلف في تأويله، فقال قوم منهم ابن عباس: هو الرجل يحضره الموت، فيقول له من يحضره: أوص لفلان ولفلان، فيأمر الموصي بالإسراف فيما يعطيه لليتامى والمساكين، وندب له أن يزيد على الثلث، وهذا كان قبل أن تكون الوصية محصورة في الثلث، فيحثه من حضره على أن يوصي بأكثر المال لأقاربه اليتامى والمساكين، فقال اللّه تعالى: لا تأمروه بما لا تفعلوه لو حضركم الموت.
وفيه بيان أن المستحب له إذا كان ورثته ضعفاء وهو قليل المال، أن لا يوصي بشيء، أو يوصي بأقل من الثلث، كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لسعد لما رده إلى الثلث فقال: «والثلث كثير» الحديث.
فأبان له أن استغناء الورثة بفضلها، أولى من استغناء غيرهم.
وقال مقسم، معنا، ضد ذلك، وهو أن يقول الرجل للذي حضره الموت: أمسك عليك مالك، ولو كانوا ذوي قرابته لأحب أن يوصي لهم.
فتأوله الأولون على نهي الحاضرين عن الحث على الوصية، وتأوله مقسم على نهي من يأمره بتركها.
وقال الحسن: هو الرجل يكون عند الميت فيقول: أوص بأكثر من الثلث من مالك، وهو الأوجه، إلا أن يكون ذلك في وقت كانت الوصية بأكثر من الثلث لازما، فأما إذا توقفت على إجازة الورثة، فلا نهي عليه.
وعن ابن عباس رواية أخرى، أنه في ولاية مال اليتيم وحفظه والاحتياط في التصرف فيه، وهذه المعاني بجملتها يجوز أن تكون معنية بالآية، إذ لا تناقض فيها، ويجمعها مراعاة المصلحة للورثة واليتامى والموصى..
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْمًا} الآية [10] الآية محكمة لا نسخ فيها، لأن الظلم ما أبيح قط، وإنما المنسوخ أنه تعالى لما قال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا}، تحرج كثير من المسلمين عن طعام اليتيم، فعزلوه حتى نزل قوله: {إنما يأكلون في بطونهم نارا} أي ما يجر الى النار ويؤدي إليها.
{وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ}، مع أن ذلك أيضا ليس منسوخا فإن قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ}، إنما عنى به غير هذه الحالة، فهو تخصيص عموم الآية، والنسخ راجع إلى رفع ما قد ثبت قبل بما يخالفه، ولم يثبت أن مخالطة الأيتام كانت محرمة ثم إنها رفعت، فهذا معنى الكلام.
قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الآية [11]:
اعلم أن الناس في الجاهلية كانوا يخصصون الذكور المقاتلين على الخيل والذابين عن الحرم بالميراث، وما كانوا يورثون الصغار ولا الإناث، وقد ورد في بعض الآثار، أن الأمر كان على ذلك في صدر الإسلام، إلى أن نسخته هذه الآية، ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك، بل ثبت خلافه، فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع، حين جاءت امرأة بابنتها من سعد فقالت: يا رسول اللّه: هاتان ابنتا سعد قتل أبو هما معك يوم أحد وقد استوفى عمهما مالهما، وإن المرأة لا تنكح إلا ولها مال، فنزلت هذه الآية.
وقيل: نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس، والأول أصح عند أهل النقل، فاسترجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الميراث من العم، ولو كان ثابتا من قبل في شرعنا ما استرجعه.
ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس، ويذب عن الحريم.